الجمعة، 9 مارس 2012

قراءة في كتاب: " المجتمع المغربي في القرن 19 ايتولتان 1850-1919" لأحمد التوفيق


قراءة في كتاب:

" المجتمع المغربي في القرن 19 انولتان 1850-1912"

لأحمد التوفيق
تمهيد:
نعتبر إعادة قراءة أطروحة أحمد توفيق : " المجتمع المغربي في القرن 19 اينولتان 1850-1912"[i]  دعوة للتساؤل عن وضعية الكتابة التاريخية بالمغرب سواء على مستوى الكم أو  المضمون والعمق. وقد لاحظ المؤرخون المحدثون أن تطور التأليف في ميدان التاريخ وكل ما يتفرع عنه من سير وطبقات وفهارس ورحلات يعرف ازدهارا في مرحلتين تمثلان نهضة فكرية كبرى إحداهما في العهد السعدي في القرن 16 م والثانية أقلها أهمية في أواسط القرن 19 م وكلتا هاتين الحركتين برزت في عهد ضغط أجنبي على المغرب،وكان استمرار الكتابة التاريخية على نفس الوثيرة حتى نهاية القرن 19 م.
      ورغم أن هدا العرض ليست مهمته الكشف عن أسباب هده الضآلة ولا يستهدف تقييما نقديا للمضمون العام للكتابات التاريخية في مراحله المختلفة. بل يستهدف طرح تساؤل عام وسريع يجعل حديثنا عن أطروحة الأستاذ التوفيق في إطار محدد، فإن دلك لا يمنعنا من القول – كملاحظة أولية – أن كم الكتابات التاريخية ومضمونها حتى الآن لم يقدم رؤيا واضحة وشاملة عن تاريخنا الوطني الذي لم يكتب بعد بالطريقة التي تجسد واقع وخصوصيات المجتمع المغربي، ويستوعب مختلف مناحيه الاقتصادية والسياسية والثقافية. إذ لا تزال الكتابة التاريخية ترسف في مرحلة التوثيق التي وقع اجتيازها في بلدان أخرى مند القرن 19 م " في مصر وتركيا مثلا".
     إن الأطروحة التي تعنينا تتناول كإطار زمني فترة النصف الثاني من ق 19 م  ما بين "1850-1912"وهده الفترة بالنسبة لنا، تعني فترة أزمة تمثلت على المستوى الوطني بتزايد تكاثف العلاقات بين المغرب واروبا.
المبحث الأول :الإطار الزمكاني للأطروحة
استهدف الأستاذ احمد التوفيق في أطروحته أن يكشف إلى أي حد يمكن أن تنعكس جوانب من تلك الأزمة في منطقة دراسته التي تعمد أن يجعلها محدودة في الزمان ومحدودة أيضا في المكان. بحيث تنحصر في دراسة قبيلة واحدة هي قبيلة اينولتان. إحدى قبائل الأطلس الكبير والتي تقع شرق مدينة مراكش. وقد علل لهدا الاختيار المحدد الذي يصفه بأنه ضيق إلى أدنى ما يمكن " بإرادة التخلص من التعميمات التي تسبح فيها الدراسات التاريخية بالمغرب". وكذلك بإرادة تكثيف استغلال الوثائق المحلية واستثمارها.
     فخلال الفترة الاستعمارية تم إنجاز مجموعة من الأطروحات التي تهدف إلى الوصول إلى تدقيقات في نطاق الدراسات المنوغرافية حول المغرب، والتي اهتمت بالأساس بالمجتمع من خلال بنياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية والثقافية، إلا أنها رغم احتوائها على عدة معطيات هامة وايجابية يمكن من خلالها تلمس واقع ماضي بعض المناطق المغربية، وكمرحلة ثالثة من مراحل التأليف التاريخي برزت بكيفية مزامنة للمرحلة الاستعمارية كتابات تاريخية يحدو كتابها المغاربة إحساس بالشعور الوطني أكثر من الاهتمام بالمنهجية والأسلوب. وقد تبلورت هده الكتابة كمرحلة متميزة أوائل الخمسينيات، لكن التطور الحاصل في هده المرحلة أنما بدأ مند الستينيات إلى الآن. منتحيا صوب التفاعل مع المناهج العلمية والاستفادة من مختلف الدراسات والأعمال الجامعية، وفي هدا الإطار ظهرت بعض المنوغرافيات الدقيقة والغنية حول بعض الجهات أو الأقاليم المغربية، حيث ساهمت هده الدراسات بشكل كبير في دراسة هده المناطق بشكل معمق، ولعل من أهمها أطروحة الأستاذ احمد التوفيق، والتي نال بها دبلوم الدراسات العليا بميزة حسن جدا، حيث نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، ودلك يوم 13 يوليو 1976 ، بحضور اللجنة المكونة من السادة الاساتدة:
   - الدكتور محمد زنيبر رئيسا
   - الدكتور جرمان عياش مقررا
   - الدكتور إبراهيم بوطالب عضوا
      وبعد مناقشة هده الأطروحة قامت نفس الكلية بنشرها عن مطابع دار النشر المغربية، فصدر الجزء الأول 1978 والجزء الثاني 1980.
      وتماشيا مع الطرح الذي تفضل به الاستاد والمتعلق بمنهجية قراءة كتاب نرى من الضروري تقديم ولو بشكل مقتضب نبذة عن حياة الأستاذ احمد التوفيق
 المبحث الثاني: تقديم المؤلف والمؤلف
أولا:  ترجمة المؤلف
من هو أحمد التوفيق؟
       أحمد التوفيق من مواليد سنة 1943 بالأطلس الكبير قرب مدينة دمنات، تلقى تعليمه الأولي بمسقط رأسه بمدينة مراكش، واشتغل استاذا بشعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط من سنة 1970 إلى سنة 1989، حيث عين مديرا لمعهد الدراسات الإفريقية بنفس الجامعة سنة 1989، وفي سنة 1995 عين مديرا للمكتبة الوطنية.
   وبعدما ناقش أطروحته  الجامعية سنة 1976، اهتم بدراسة قضايا تاريخ المغرب خلال العصر الوسيط ، إلى جانب نشره لعدة أبحاث تنتمي إلى التاريخ الاجتماعي، كما قام بتحقيق نصوص ومخطوطات هامة تناول فيها أدب المناقب والفتاوى مثل كتاب التشوف " لابن الزيات التادلي" ، وابتداء من سنة 2003 شغل منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى الآن. ولا شك أن الباحث أحمد التوفيق اعترضته مجموعة من الصعوبات أثناء انجاز بحثه هدا، المعنون ب:" المجتمع المغربي في ق 19 " اينولتان 1850-1912" لا على مستوى المنهج أو البحث الميداني على الوثائق والرواية الشفهية.
ثانيا: توصيف الكتاب
الطبعة التي نحن بصدد دراستها صدرت سنة 1983 بمطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، والتي تتألف من 669 صفحة، وهي أطروحة غنية تناولت تاريخ المجتمع الاينولتاني من مختلف الجوانب، والتي يمكن للباحث المهتم بالتاريخ الاجتماعي الاستعانة بها في طرح مجموعة من الإشكاليات الكبرى التي سيبني عليها بحثه.
      قسم الأستاذ احمد التوفيق بحثه هدا إلى مقدمة وأربعة أقسام ويحتوي كل قسم على خمسة فصول، وكل فصل يختمه بهامش واستنتاجات، مع ذكره لأهم المصادر والمراجع التي اعتمدها، حيث استعمل ما يقرب من 150 مرجعا أجنبيا و60 مرجعا عربيا، زد على دلك فهرس لأسماء الأشخاص وأخر لأسماء المجموعات وجداول ورسومات بيانية، بالإضافة إلى مجموعة من الخرائط.
وقد جاء موضوعات الكتاب على الشكل التالي:
القسم الأول:
اينولتان في الزمان والمكان
الفصل الأول:       مصادر ومنهج
الفصل الثاني:       أخبار اينولتان إلى منتصف القرن التاسع عشر
الفصل الثالث:      موطن اينولتان
الفصل الرابع:     انتظام المجموعات داخل قبيلة اينولتان
الفصل الخامس:  الأحدث من منتصف القرن التاسع عشر إلى الغزو الفرنسي
القسم الثاني
الحياة الاقتصادية لاينولتان
الفصل السادس:  السكن والسكان
الفصل السابع:  الزراعة والرعي
الفصل الثامن:   الصناعة
الفصل التاسع:  التجارة والتجار
الفصل العاشر: مستوى العيش
القسم الثالث
الحياة الاجتماعية لاينولتان
الفصل الحادي عشر:   مجتمع تفاوت
الفصل الثاني عشر: مجتمع تضامن وتآزر
الفصل الرابع عشر:  الحياة الدينية
الفصل الخامس عشر:   النمط الثقافي
القسم الرابع
اينولتان والدولة المغربية
الفصل السادس عشر:   المخزن وممثلوه المحليون
الفصل السابع عشر :      العلاقات الجبائية والتسخيرية بين اينولتان والمخزن
الفصل الثامن عشر:     أثار العلاقة الجبائية والتسخيرية
الفصل التاسع عشر:   انتفاض اينولتان
الفصل العشرون:     انتفاضات فاشلة ومحاولة تغيير فاشلة
استنتاجات عامة

      في المقدمة  أشار الأستاذ إلى: " أن التاريخ الاجتماعي يرتكز على أسس اقتصادية ويشمل العلاقات السياسية بين فئات السكان وبين الحاكمين"2.
      في القسم الأول تناول الباحث وضع المجتمع الاينولتاني في سياقه التاريخي وإطاره الجغرافي حيث وقف على الثوابت التي اتسم بها هدا المجتمع كباقي المناطق المغربية منذ العصور القديمة. وكدا التغيرات التي عرفها هدا المجتمع من خلال الأوضاع الجديدة التي خلفها الانفتاح على اروبا.
     أما في الفصل الأول فقد عالج الأستاذ إشكالية الوثائق وأكد على أنها شديدة التنوع مختلفة النماذج فإلى جانب الوثائق المحلية:- الوطنية والأجنبية- (من سجلات رسمية وحوالات الاحباس ووثائق مخز نية: " رسائل وظهائر وتقارير" وكذلك نوازل فقهية وتقاييد العائلات)-  اعتمد كذلك على مجموعة من المصادر والمراجع سواء منها الأجنبية أو العربية.
المبحث الثالث: الإطار المنهجي لأحمد التوفيق في تأليف تاريخ قبيلة إنولتان
   للتعرف على منهج أحمد التوفيق الذي اعتمده نبدأ بالتساؤل عن أشكال تعامله مع الوثيقة وسلوكه إزاءها ، فنجد أن التوفيق يعترف مند البداية بأن الوثائق رغم تنوعها وتعدد طبيعتها،لا تكون سلسلة متتالية تصلح لتتبع التطورات الاقتصادية والاجتماعية، وخلافا لما درجت عليه بعض الكتابات التقليدية من انتهاج الأسلوب الانتقائي - كما نجد عند الزياني والناصري مثلا في اختيار الروايات وترجيح إحداها على الأخرى - فإن الأستاذ التوفيق عدد مستوى قراءته للوثيقة.
      فعندما قرأ عقود الأملاك العقارية مثلا لاحظ أن المعلومات التي تمده بها لا يسهل الاستفادة منها وتوظيفها لعدم تدقيقها في المساحات، فالتجأ إلى تكملة قراءتها بالرجوع إلى مصطلحات في كناش الترتيب العزيزي. والاستفادة من تحديد المساحات " بأزواج الحرث" وبمصطلح "فدان"إلا أنه رغم دلك تبقى أمام المؤرخ معضلة وحدات القياس المعقدة والمختلفة حتى على مستوى محلي محدود.
      ويرى أن استعمال النوازل الفقهية بشكل مكثف – والدي لم يتم بعد – يقتضي استعمال النوازل السابقة، وقد وظف فعلا نوازل أقدم من المدرسة المدروسة مثل الأجوبة الناصرية لمحمد بن ناصر الدرعي في ق 17 م.
      أما بالنسبة لاستعمال الثقافة الشعبية ( الشعر والأمثال والأهازيج الامازيغية) وكدا الرواية الشفوية فقد التزم الاستاد التوفيق ما ينبغي أن يلتزمه المؤرخ من الحرص والحذر تجاههما. وباعتبار أن الشعر والأمثال والأهازيج تكون جانبا مهما من الثقافة الشعبية حيث حافظت في ذاكرة المجتمع على واقع أصيل تعبر عنه بواسطة اللغة المحلية في هده الأشكال فقد استعملها مرارا، ولكنه حرص دورها إما في ضبط حالات اجتماعية، أو في بعض مواقف الحكام، وأن استعمال هدا النوع من" الوثائق " بعد التأكد من أصالتها وشيوعها لا شك أنه سيسد ما بالوثائق المكتوبة من ثغرات.
       لقد اعتبر احمد التوفيق الرواية الشفوية رغم أهميتها نسبية وآخذة في التضاؤل فيما يخص ق 19 م، وأخضع هده الروايات إلى شروط دقيقة ، حيث كان يختار مخبريه من بين الأفراد المسنيين، وهدا الاختيار يصادف تعارضا مع ما ذهب اليه الأستاذ عياش في كون هؤلاء المسنيين" حتى وإن وجدوا.فإن الذاكرة تخونهم . كما يعوزهم استحضار فترة شبابهم وقوتهم" لكن الأستاذ التوفيق يزيل حدة التعارض حينما يتحرى الطريقة المثلى في فحص الرواية، ودلك بعقد جلسة يحتدم فيها النقاش بين المتناظرين.
المبحث الرابع: الإطار المعرفي الذي انطلقت منه الأطروحة
       في الفصل الثاني من الكتاب تحدث الأستاذ التوفيق عن أخبار إينولتان مند ما قبل الإسلام إلى منتصف القرن 19 م. وأوضح أنها كقبيلة لم يتم العثور عليها في النصوص القديمة المكتوبة، ولكنه وجد اسم القبيلة الكبرى التي تسمى " هسكورة"، وتتبع تطورها حيث انتقلت من الرعي والترحال إلى الاستقرار والزراعة والرعي القصير داخل جبال الأطلس الكبير الأوسط، وخاصة في العهد المريني والو طاسي.
       وأشار التوفيق في هدا الفصل أيضا إلى أن قبيلة هسكورة أسست بعض المراكز المهمة كدمنات والمدين ومارست أنشطة حرفية وصناعية وتجارية مهمة، ومع تغير البنية الاجتماعية وقوانينها تلاشت الأحلاف داخل القبيلة، فبدأت تظهر قبائل صغرى انكمشت على نفسها ودافعت عن مجالها الضيق" كاينولتان " وكانت تتجدد باستمرار بعناصر أجنبية. كما كان سكانها يهاجرون خارج هدا المجال، بسبب الأوبئة والمجاعات والقحوط أو تسلط الحكام...
       في حين أشار الأستاذ التوفيق في الفصل الثالث إلى أن اينولتان اسم للناس وليس للموطن الجغرافي، وأشار إلى أن العناصر الأساسية في الفهم التاريخي لقبيلة اينولتان ولقبائل الأطلس الكبير بصفة عامة هي:
  - الاستمرار في الاسم
  - الثبات النسبي في المجال الجغرافي
  - التجدد المستمر في السكان
      وقد اعتبر الباحث دلك ضرورة منهجية لدراسة المشاكل المتصلة بالبنية الاجتماعية، ذلك أن المجال الجغرافي يساعد في فهم المنطقة، وفي فهم الروابط بين المجموعات البشرية، وهده الخاصية خاض بها علي محمدي في كتابه "السلطة والمجتمع في المغرب نموذج أيت باعمران" .
     حاول الأستاذ أحمد توفيق في كتابه هذا أن يناقش ظاهرة السيبة التي انصبت عليها كثير من التفاسير الأجنبية على المستويات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية وطرحت كمفهوم يحدد العلاقة بين القبائل و المخزن، وكتبرير للتدخل الأجنبي أمام عجز سلطة – المخزن تجاه تلك القبائل، ويصبح التدخل- في نظر تلك الكتابات- بديلا عن عجز المخزن وغياب سلطته.
     ولم تلتجئ مناقشة الأستاذ التوفيق إلى إصدار أحكام قطعية حول السيبة كما لم تلتجئ إلى إنكار الظاهرة بل أكد تواردها في مختلف المصادر والوثائق و حضورها في الواقع وصنف علاقة المخزن بالقبائل في ثلاث حالات:
     - حالة شعور: أثناء غياب الوجود المخزني عند تلك القبائل بسب ضعف الحكام.
     - حالة جور: فتكون القبائل ثائرة ضد تعسف حاكم جائر.
     - حالة اعتدال: فالقبائل حينئذ رعية منقادة بولاء متعدد الاعتبارات
       وبالنسبة للفصل الرابع فقد خصصه الأستاذ التوفيق إلى الحديث عن انتظام المجموعات داخل قبيلة اينولتان، وبالنسبة للنظريات التي وقع توظيفها أثناء تناول المجتمع المغربي، بداءا من النهج الخلدوني ومرورا عبر ما تولد من نظريات مند القرن 19 م إلى الآن خاصة التحليل الماركسي ثم النظريات السوسيولوجية والأنتروبولوجيا بما فيها الاتجاه الأنجلوسكسوني. فقد ابد التوفيق موقفه حيالها: لقد استفاد منها حيثما لا يجد تعارضا بينها وبين المعطيات التي يصل إليها بعد التحري أو يلتجأ إلى انتقادها حينما يجد بها تعارضا، وفي هدا الإطار ناقش بعض التنظريات الموظفة لإيجاد أسباب الفعالية، وانتظام العلاقات داخل المجتمع المغربي، فكشف عن نقط التوافق بين " روبير مونطاني". "وجاك بيرك"  في مفهوم" تاقبيلت" ومفهوم " إغصان"، والتعارض الحاصل بينهما في دور " اللف" وذلك لعدم انطباق نظرية رقعة "الشطرونج" التي قال بها مونطاني ونظرية " كلينر" التجزيئية ووجد أن النظريتين مع لا تفسران العلاقات بين مكونات القبيلة ولا تبلغان  الهدف، وهو تحديد الآليات التي تتحكم في الفعالية داخل كيان المجتمع البدوي. لكنهما تختلفان من حيث الأسلوب. فيرى مونطاني أن الفعالية كامنة في التعارض الواقع بين أجزاء القبيلة أو عدة قبائل، مما يجعلها متكافئة فأصبح " اللف" أو الحلف- وهو حالة استثنائية لا تل تجئ اليه القبائل إلا في حالة حرب- أصبح بالنسبة لمونطاني مفتاح النظام الاجتماعي والسياسي، على حين يرى كيلنير أن هده الفعالية كامنة ليس  في التعارض نفسه ولكن في توزيع دلك التعارض على عدد من المستويات داخل هدا المجتمع الذي يصفه بأنه " انقسامي " ويجسد دلك في هده الصورة " أنا ضد إخوتي وأنا وإخوتي ضد أبناء عمي، ونحن جميعا ضد العشيرة في القرية... " حيث أن التعارض بين المصالح في مستوى أدنى يتحول إلى توازن عندما يصبح التعارض في مستوى أعلى وهكذا.
       وأوضح أن مثل هده النظرية خاصة لدى مونطاني كانت تستهدف دراسة أسرار التوازن الذي ظل قائما في كيان مجتمع البادية، رغم تعرضه لاضطرابات عديدة. ثم القيام بزعزعة دلك التوازن من طرف الغزو الاستعماري ليتم في نفس الوقت توطيد الغزو وتبريره.
     وفي خضم هده المستويات المتعددة من التعامل مع الفروع المعرفية منهجا ومادة. يخلص الأستاذ التوفيق إلى التحفظيين التاليين:
    1- أن للتاريخ حيزه وخصائصه، التي تجعل مسعاه يختلف من بعض الوجوه عن تنظيرات الفروع المعرفية الأخرى . فيرى مثلا أن مسعى الأبحاث السوسيولوجية المذكورة الذي هو اكتشاف قوانين التوازن الاجتماعي انطلاقا من نظريات منطقية يختلف عن مسعى المؤرخ الذي يريد أن يكشف عن التطور اعتمادا على الأحداث والوقائع.
  2- أن الأسئلة التصنيفية التي يضعها المنظرون. لا يمكن الإجابة عنها  في إطار دراسة منوغرافية، كما أن ما يستخرج من الوثائق من عناصر إنما يغري ببعض جوانب تلك التنظيرات مثل تلك العناصر التي قد توحي بصلاحية المجتمع الخلدوني حتى في ق 19 م لتفسر هدا المجتمع، وقد تكشف عن صراعات تغري بالميل إلى التحليل الماركسي عندما نلتمس بعض سمات نظام فيودالي أو متغيرة من متغيرات نمط الإنتاج الآسيوي. كما أن المظهر الانقسامي لمجتمع القبيلة قد يوهمنا بكفاية نظريات التوازن الاجتماعي التي طالما أثيرت لتفسيردينامية هدا المجتمع، وبهدا الاعتبار يقول الاستاذ التوفيق : " إننا لا تطمح إلى الخوض في هده التنظيرات بحزم يحدد نوع العلاقات السائدة وإدراجها في تفسير معين. مع اقتناعنا بأننا  نساهم في بناء هدا التفسير الشامل بعمل قائم على الوصف أكثر مما هو ناجم عن التحليل. حتى لو كانت استنتاجاته مؤقتة "
     وبهذين التحفظين تكون هذه الأطروحة قد أبرزت بوضوح الموقف المطلوب مما يحدث في كثير من الدراسات من تطبيق مختلف التنظيرات على الواقع المغربي بشكل تعسفي يطمس كثيرا من معالم تاريخينا ويعرضها للتشويه بنظريات جاءت انعكاسا لمجتمعات مخالفة لمجتمعنا في كثير من خصوصياته.
      وادا كانت هده وجهت نظر المؤرخ، فلا يزال المشكل مطروحا بخصوص حدود التعامل مع مختلف التنظيرات بصفة عامة. ما دام الكثير من الباحثين يقفون عند حدود الإنتقاد دون تقديم البديل.
المبحث الخامس: أهم مضامين الكتاب
خصص أحمد توفيق  القسم الثاني من الكتاب للحديث فيه عن الحياة الاقتصادية لإينولتان, حيث بدأ الفصل السادس منه للإشارة إلى السكن و السكان وأكد انه لا يمكن معرفة النمو الديمغرافي للمجتمع الإنولتاني نظرا لقلة المصادر و المراجع. ولتغطية هدا النقص اعتمد الباحث على بعض السجلات و الكنانيش المحلية وعلى حوليات الأحباس، من أجل معرفة بعض الملامح الديمغرافيا للمنطقة المدروسة، ولأجل ذلك قدم وصفا دقيقا لمدينة دمنات، والتي تعتبر أهم تجمع سكاني بإينولتان، وتتكون من قرية أيت يحيى ( حي أرحبي حاليا)، ومن القصبة المخزنية المسورة (قصبة سور موسى) بالإضافة إلى التجمعات المحيطة والمرتبطة بها .
وبالرغم من استقرار السكان في هذه الفترة، فقد شهدت المدينة تدهورا عمرانيا وركودا اقتصاديا، كان له انعكاس سلبي على مناحي الحياة الأخرى ، لكن مع فترة تولي السلطان الحسن الأول،ستنتعش مدينة  دمنات وستعرف ازدهارا عمرانيا ما فتئ أن تلاشى بعد موته. لتدخل بعدها المنطقة في صراع بين مجموع التجمعات السكنية المحيطة بها.
كما انتقل الباحث للحديث عن عدد السكان، باستقراء المعطيات الخاصة لعدد الكوانين والمجندين المسجلين في الوثائق الرسمية. حيث عمل على تحويل عدد من الكوانين إلى عدد من الأشخاص انطلاقا معطيات الزيارة التي قام بها الحسن الوزان في القرن السادس عشر والذي قدر عدد سكانها بحوالي 200 كانون في حين قدر "كرابركر " نائب قنصل السويد والنرويج في القرن التاسع عشر سكان دمنات بحوالي 8000 نسمة ، أما الراهب شارل دوفوكو فقد قدر عدد سكانها بحوالي 3000 نسمة ويمكن تفسير هذا التضارب في الأرقام إلى المجاعة والأوبئة والقحوط التي أصابت المنطقة وكان لها انعكاس سلبي على التطور الديمغرافي .
وباعتماد توفيق على قاعدة تقدير عدد الكوانين الأدنى والأقصى نظرا لصعوبة معرفة عدد السكان الحقيقي، خلص الكاتب إلى أن مجموع سكان إنولتان هو 30100 نسمة وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين.
أولا: الزراعة والرعي في بلاد إنولتان
في الفصل السابع من الكتاب أكد الباحث أنه بالرغم من امتداد إنولتان في منطقة يطبع عليها الطابع الجبلي والمتميز بالتربة الفقيرة ونذرة المياه. إلا أن السكان قاوموا ذلك عن طريق استغلالهم للشرائط المحاذية لجنبات الأودية وأنشؤوا فيها بقعا أرضية صغيرة على شكل مدرجات، تستغل في الزراعة المسقية والتشجير. أضف لذلك المساحات البعلية القريبة من الغابات، ويعتبر النشاط الرعي، نشاطا مكملا للزراعة بالمنطقة .
وعن توزيع ملكية الأراضي بإينولتان، توصل الكاتب إلى أن سكان إنولتان لم تكن لديهم ملكية جماعية للأرض الزراعية، كما أن هذه الأرض لم تكن موزعة بشكل يسمح للجميع لتملكها، فقد سادت الملكية الخاصة بشكل كبير، هذا  دون أن ينسى أراضي الأحباس التي كان يصرف منها على المساجد.
 وتتركز أغلب الأراضي على الملاكين الكبار من القواد وشيوخ الزوايا، في حين أن الأغلبية الساحقة من السكان هم إما خماسين أو رباعين أو رعاة أو شركاء ولكن بشروط مجحفة.
أما أهل الذمة من يهود إنولتان، فقد كانوا يمتهنون عدة مهن وحرف و لا يمتلكون الأراضي.و يستدل لذلك من وثيقة الترتيب التي لم تنص على أن يهود كطيوة كانوا يملكون أراض زراعية .هكذا كانت وضعية اليهود بالمغرب عموما.ولكن بالمقابل عثر الباحث على بعض العقود التي تشير إلى انتقال بعض الحقول إلى اليهود وذلك بالشراء أو عن طريق الإعارة أو لاستثمارها مع شركاء مسلمين.
وفي معرض حديثه عن الماء، أكد الباحث أنه (أي الماء) شكل مصدرا للصراعات والتوتر بين السكان، لانعدام الرطوبة الكافية ولقلة التساقطات. والماء بالنسبة للمجتمع الإنولتاني أهمية أكثر من الأرض.
 وفي موضوع تقنيات الزراعة  المتداولة فهي عادات تقليدية وعتيقة وضعيفة وغير مساعدة على تحصيل مردود زراعي، يكفي لسداد حاجيات السكان. ناهيك عن كون المنطقة شهدت العديد من المجاعات والأوبئة بتوالي السنوات العجاف،فأدى ذلك إلى نفوق البهائم وانخفاض كبير في المزروعات والثروات الحيوانية.
ثانيا: الصناعة والتجارة بإينولتان
في الفصل الثامن تناول المؤلف الصنا عة في إينولتان، وأكد أن هناك فئة من الصناع اليدويين والتي تستغل الثروات الطبيعية والمعدنية ، وبعض المنتوجات الرعوية والزراعية، بتحويلها إلى مواد مصنعة من الخشب أو الدوم أو معدنية كالحديد والنحاس، بالإضافة إلى صناعة الخزف والنسيج والجلود والبناء وعصر الزيتون. وتباع هده المنتوجات داخل القبيلة ويتم تسويق البعض منها إلى خارجها من اتجاه السهول المجاورة، وكذلك في اتجاه المدن الكبرى كمراكش، ولتكميل صناعتها كان لابد من مواد أولية البعض منها يجلب من مناطق أخرى .
تعتمد الصناعة بالخصوص على تقنيات بسيطة وعتيقة، لم تساعد على تراكم الرأسمال، وهناك سبب آخر لذلك يتجلى في كون هده المهن والحرف ،تتأثر بالظروف الطبيعية والمناخية،وقلة المواد الأولية، نظرا للمنافسة الأروبية عليها.
وفي الفصل التاسع من القسم الثاني أشار فيه الباحث للتجارة والتجار، واستهل هذا الفصل للحديث عن النقود حيث أكد أن النقود المغربية كانت قبل القرن التاسع عشر ذهبية وفضية ونحاسية، وكانت النقود الفضية تلعب الدور الأهم في المعاملات باعتبار أن الذهب كان قليلا جدا، بينما النحاسية  كانت نقودا مساعدة. وفي نفس الصدد أشار إلى أن هناك نقودا أجنبية، خاصة الإسبانية تروج في  المغرب في القرن الثامن عشر، وذلك بعد انفتاح المغرب على التجارة الأوربية. وبالتالي أثر ذلك سلبا على العملة المغربية ويرجع ذلك إلى انخفاض حجم الصادرات وفي المقابل ارتفاع في قيمة الواردات. وإذا أضفنا إلى ذلك العوامل الطبيعية التي تتمثل في الأوبئة والمجاعات والجفاف، وكذلك عوامل بشرية متمثلة أساسا في الصراعات والحروب،ثم عوامل سياسية التي تتجلى في تسلط الحكام عن طريق فرضهم لضرائب مجحفة في ظل الأزمة.
 كما أن استعمار تومبوكتو أدى إلى تغيير طريق القوافل التجارية في اتجاه قبيلة كلاوة، فأدى كل ذلك إلى وقف المنتجات الواردة على منطقة اينولتان، كما أن الوسائل والتقنيات المستعملة في الجانب التجاري لم تساهم في تراكم رؤوس الأموال. وما يمكن استنتاجه من هذا الفصل أن ضعف قيمة النقود المغربية وتعدد المسكوكات وتزويرها، ثم كنز العديد منها وعدم ترويجها، بالإضافة إلى اختلاف المكاييل والأوزان والمقاييس، وكذلك جمع بعض القواد وشيوخ الزوايا بين الزراعة والصناعة والتجارة أدى إلى تعميق ألازمة،وإلى تفكك بنيات المجتمع والتدهور العمراني لولتانة في النصف الثاني من القرن التاسع .
ثالثا: مستوى عيش المجتمع الإينولتاني
خصص احمد التوفيق الفصل العاشر لمستوى عيش المجتمع الاينولتاني حيث قال أن تقدير مستوى عيشهم في القرن التاسع عش، هو تقدير لتطور مصادر العيش من جهة، وتقدير لتطور كلفة الحياة من جهة أخرى، لذلك فهي تصعب دراستها من الناحية المنهجية. وتحدث المؤلف في البداية عن موارد العيش للسكان، إذ أنهم يعتمدون على الزراعة والرعي. إلا أن الغالبية العظمى من الإينولتانيين  لم تكن لديهم وسائل الإنتاج الأزمة للحصول على الحبوب، نفس الشيء بالنسبة للصناع، أما التجار فإن اغلبهم كانوا من اليهود وبعض المسلمين.
كما تحدث الباحث عن التغذية وأكد أنها تتكون أساسا من الحبوب وبعض القطاني، كما تحدث كذلك عن الظروف الصحية حيث أشار إلى بعض الأمراض التي تصيب الأطفال وأن مدينة دمنات في هذه الفترة تنعدم فيها شروط الظروف الصحية.
وما يمكن استنتاجه من هذا الفصل حسب ما ذكره الباحث ، أن موارد العيش للإينولتانيين تتجلى بالخصوص في الفلاحة و الصناعة و التجارة ،لكن ضعف التقنيات المستعملة لديهم، و الظروف الطبيعية الصعبة ،وكذلك الغزو الأوروبي للمغرب عمق الأزمة الاقتصادية للمجتمع الإينولتاني.
كما أشار الباحث إلى صعوبة دراسة الأسعار باينولتان بسبب تنوع الموازيين والمقاييس بالإضافة إلى تعدد العملات وتغييرات الظروف،وحاول إبراز وتوضيح التفاوت الاجتماعي للسكان، بكل مكوناته الاقتصادية والمالية على المستوى العمودي للمجتمع.
رابعا:الحياة الاجتماعية لإينولتان
خصص أحمد التوفيق القسم الثالث للحياة الاجتماعية لإينولتان، وبدأ الفصل الحادي عشر للحديث فيه عن مجتمع تفاوت ، حيث عمل على تفكيك بناه الاجتماعية القائمة أساسا على أشكال التفاوت الاقتصادي، وكذلك تحدث عن الأنساق المتحكمة في هذه البنيات ، فهدا التفاوت يرجع سببه إلى قلة الأراضي الزراعية .وقد كان أغلبها في أيدي قليلة من الفلاحين، أي الملاكين الكبار، فالتفاوت في الملكية والتحكم في وسائل الإنتاج هي المحددة للعلاقات بين السكان . وهي الشرط الأساسي في التراتبية الاجتماعية للمجتمع الإينولتاني، حيث نجد أن الأعيان - وهي تسمية تنطبق على من يسميه الإينولتانيون ب" ايخاترن" -  فهم الدين يسيطرون ويستحوذون على وسائل الإنتاج.  كما انهم كذلك يعتبرون سندا للحكام.
و أكد الباحث أن بإينولتان كانت سلطة المخزن أكثر حضورا، وكان بها الأعيان من أبرزهم  " علي أوحدو" و" الجيلالي" و "محمد أبلاغ" والذين كانوا من ممثلي المخزن في إينولتان، لذلك كانت لهم امتيازات عن طريق ظهائر التوقير والاحترام. بينما نجد عامة الناس أسفل هرم الصراع الاجتماعي والطبقي.
و تحدث الباحث كذلك عن التفاوت بين المالكين العقاريين في إينولتان، وأكد أن الملاكيين الذين كانو يقيمون بدمنات، كانوا أوسع أملاكا من الملاكين الجبليين، وذلك راجع إلى عدة أسباب منها وجود أراضي زراعية مسقية محيطة بالمدينة، وكذلك كون هؤلاء الملاكين في مدينة دمنات يشتغلون في التجارة مما أدى إلى التوسيع  والزيادة في أملاكهم، بالإضافة إلى أنهم كانوا أقل تعرضا للجبايات والتسخيرات المخزنية المعرقلة للزيادة في ثرواتهم، وفي نفس الصدد تحدث الكاتب عن التفاوت بين التجار، حيث أنه لم يكن لدى  التجار المسلمين في دمنات من كان رأسماله يشكل ثروة ضخمة مستثنيا في ذلك الجيلالي الدمناتي، كما أن اليهود هم المتخصصين في ذلك.
وأشار أحمد التوفيق إلى التفاوت الموجود بين المدينة والبادية ، وأكد في هدا الصدد أن هناك ملاك قطعان الماشية في البادية في المقابل الملاك المزارعين والتجار في المدينة. كما أن سكان المدينة كانوا يعفون من التكاليف المخزنية .
خامسا: مجتمع التضامن والتعارض
تحدث الكاتب في الفصل الثاني عشر عن مجتمع التضامن والتعارض، فإذا كان المجتمع الإينولتاني مجتمع تفاوت في الملكية والثرواث الطبيعية والاقتصادية والتحكم في وسائل الإنتاج، لفئات قليلة وهي المحددة للتفاوت الاجتماعي. في المقابل هناك التضامن والتآزر وهو أكثر سيادة، كل هدا أدى إلى الحد من حدوث صراعات طبقية، و من تعميق الهوة بين الأفراد المالكين لوسائل الإنتاج وغير المالكين.
 وتتجلى أشكال التعاضد في التضامن القروي المبني أساسا على النسب بالرغم أنهم لم يكونوا يدعون أنهم ينتسبون إلى جد مشترك. إذ يعتقدون أن بينهم قرابة الأخوة  "تاكمات" لذلك ربطوا علاقات فيما بينهم كعلاقة " تاضا" وهناك تضامن أخر وهو تضامن تكافلي في الهبات والصدقات والتعاون أثناء المجاعات والجفاف، وهناك كذلك التضامن الاقتصادي بالتعاون عن طريق " تويزي"، بالإضافة إلى التضامن الجبائي من أجل تسديد ضرائب المخزن.
وفي الأخيرهناك تضامن لأسباب دينية والتضامن لأسباب مورفولوجية وهي التضامن من اجل القبيلة والجوار. كما نجد تعارض لأسباب طائفية آو مرفولوجية أو لأسباب سياسية خاصة بين الأعيان حول السلطة.
سادسا:الحياة القانونية
في معرض بحث احمد توفيق في الحياة و الثقافية لقبيلة إنولتان،وقف على مسألة التفاعل بين الشرع والعرف واللذان كان يحكمان على حد قوله علاقات السكان فيما بينهم، دون أن يكون تعارض بينهما أو انفصال.
إلا انه وجب التمييز بين "أزرف" أي العرف الذي هو بمقتضى الشرع وأحكامه وبين العرف الآخر المخالف له كالعرف القاضي بعدم توريث البنات.
وهنا نجد مثلا الفقيه الكيكي واجتهاده لمحو عادة تحريم البنات من الميراث والتي كادت أن تتفشى في المنطقة، ولقد كان السكان في أقضيتهم يحتكمون إلى ثلاث أنواع من القضاء : القضاء الشرعي والمخزني والعرفي. فقد كان القاضي كرداس يجلس للأحكام في محله بدمنات حيث يقصده رجال القبائل المجاورة ، وهو قاضي معين من قبل السلطان محمد بن عبد الرحمان بطلب من القائد علي أوحدو. أما يهود دمنات فكانو يفصلون نزاعاتهم فيما بينهم ومع أحبارهم إذا كانت ذات صبغة دينية ، في حين تعرض الخصومات الأخرى على عامل دمنات .
ومن الملفت للانتباه أن بعض الطلبة والفقهاء كانوا يتطوعون للقضاء نتيجة تراكم القضايا وقلة القضاة المخزنيين ، وكانوا يفصلون في النزاعات بين الناس مع تنفيذ الأحكام التي انتهوا إليها متى كان التراضي بين المتقاضين.
وقد أورد المؤلف إشارة لثوثيق جرح غائر يسيل دما قام بها السادة العدول وهو نتيجة اعتداء جسدي بين متخاصمين ، هذا التوثيق تم بحضور مولاي الحجام ممن له معرفة بالجراحات ، وقد تم توصيف الجرح بدقة من حيث الطول والعرض . وهذه الوثيقة وكأن المطلوب منها إجراء خبرة طبية بلسان الحال سترفع إلى السيد القاضي لتعزز ملف المدعي وتساعد في البث في القضية والنطق بالحكم.
أما فيما يتعلق بالعقوبات فقد أشار الكاتب إلى أن الأعيان كانوا يعاقبون عموما بالتغريمات المالية ،في حين يعاقب المعوزون بالسجن.
كما أن اللجوء إلى الحكم المخزني لم يكن يقع إلا في حالة استحالة التسوية بواسطة تحكيم الجماعة.
ومن خلال تحليل الكاتب للوقائع القانونية التي بين يديه  أشارإلى أن مجتمع إنولتان يتميز بضعف الإنتاج والتفاوت الاجتماعي مع استمرار قيم التكافل والتضامن وكذا تأثير نشاط بعض الزوايا والطلبة على تحكيم شرع الله في توريث البنات.
سابعا: الحياة الدينية
الإسلام كعقيدة تغلغل في جبال الأطلس ويستدل احمد التوفيق لذلك بنتائج الباحث إدموند دوتي ومحاضراته عن الإسلام والمغرب, فالتوحيد كان منطلق عبادة سكانه، وكان سكان إنولتان يعتقدون في الجن والذي يسكن في الغالب أماكن موحشة ومظلمة لذا كانوا يتقلدون الحروز مخافة شرها كما أن الأمراض الكثيرة التي يصعب إيجاد تفسير لها كانوا ينسبونها للقوى الخفية خصوصا ما تعلق ب (أمراض الأطفال) كما أنهم كانوا يعتقدون أن هناك من بين البشر من لديه ملكات وقوى خفية. و كانوا يبجلون الأشخاص كالصلحاء المرابطين والمتصوفة.
إن تقدير السكان للصلحاء لا يعني أنهم قاموا مقام الفقهاء كما يعتقد وإن كان هذا التقدير فهو لا يصل مستوى التأليه والتقديس.ومما اشتهر في المنطقة كذلك التعلق بأضرحة الصلحاء الأموات ، وتبجيل المجاذيب الذين اشتهروا عند الناس بالدعوة المستجابة، ومن الأمور الغريبة ، الإعتقاد في الكراكر جمع أكركور كأكركور ن سيدي بولخلف، والاعتقاد في منبع إيمي نفري . وإجمالا يمكن أن نميز على الخريطة الدينية لإينولتان ثلاثة مجموعات:
ü    أماكن مقصودة للعبادة أو الدعاء وهي مساجد الأضرحة والزوايا
ü    أشياء طبيعية يعتقد فيها كالمنابع المائية والمغارات والشجيرات
ü  أشخاص لهم نفوذ أو إعتبار ديني كالفقهاء والطلبة والمجاذيب على الرغم من توفر جميع الطرق الصوفية وممثليها بدمنات والتي لعبت أدوارا مختلفة في الحياة الأحتماعية والسياسية لسكان المنطقة.
ثامنا: النمط الثقافي
-         الثقافة الشفهية :
تتكون الثقافة الشعبية المحلية من الحكايات والشعر والخرافات والسير والأمثال ....الخ. وميزتها أنها شفهية محفوظة بالتوارث والتواتروهي جماعية التأليف وعامة. ولإبراز مضمون هذه الحكايات أحال توفيق القارئ إلى مجموعة أعمال سعيد بوليفا الذي جمع ما احتوت عليه المنطقة من أدبيات. وفي مبادرة منه أي التوفيق قام بعرض لنماذج من الحكايات والشعر الأمازيغي، وحاول تفسير رموز ما جاءت به وتأويلها للنفاذ إلى عمق المضامين واستخلاص بعض المواضيع والوقائع التاريخية.
-         الثقافة الكتابية :
تبرز ثقافة المكتوب من خلال المساجد التي تضم الكتاتيب القرآنية ومن خلال المدارس القرآنية المنتشرة بالمنطقة والتي كانت تدرس بها الروايات القرآنية العشر والعلوم الفقهية واللغوية . وكانت جماعة القرية ترعى تعليم أبنائها وتتعاقد مع المعلم وتقوم بلوازمه، كما كان للناس شغف بالتعليم وسعي لتحصيله.
القسم الرابع : إنولتان والدولة المغربية  المخزن وممثلوه المحليون
يرى المؤلف أن أشكال الروابط بين ممثلي المخزن والقبائل يمكن حصرها في خمسة أشكال :
ü    ما هو خاضع مباشرة لحكم العامل ونطره
ü    ما هو خاضع غلى نظر الخليفة من أسرة القائد
ü    ما هو خاضع إلى نظر شيخ كبير من عين المكان
ü    ما هو مقر بالتبعية بعد صراع طويل كأهل دادس وتودغة
ü    ومن هم يدينون يدينون بالطاعة الإسمية كأيت عطا.
  وبالنسبة للتمثيل المخزني فقد كان يتكون من القائد أو العامل ومن حامية عسكرية ومن الشيوخ والمقدمين والأمناء والطلبة (أي الكتاب) ومن القاضي وعدوله.
وتتجلى مهمة العامل في نظر السلطان في النظر في أمور الرعية والسهر على الخدمة الشريفة.
وعن علاقة القائد بالمخزن يشير الباحث إلى أنها تستند إلى أصول نظرية،هي أصول الشرع الإسلامي ، فالسلطان كان يعزز عماله ويشد عضدهم حسب إمكاناته ، وكان يستدعيهم للقدوم إلى حضرته كلما تطلب الأمر ذلك.
وعن علاقة مجالس الأعيان بالمخزن ، ذكر المؤلف أن الشكل الذي آلت إليه هذه الهياكل التقليدية هي التدخل لتنظيم شؤون "الجماعة " المتعلقة ببعض الشؤون الزراعية أو الضيافات ، فقد كانت "تجماعت " تتذاكر في ما يهمها غير الشؤون القضائية والحربية والسياسية.وبالنظر إلى كون العامل من ملاكي الأراضي في إيالته فقد كانت علاقته بالسكان تحكمها ثلاث اعتبارات:
1.    خدمة الدولة
2.    إجراء الأحكام
3.    تنمية ثروته الخاصة
تاسعا: العلاقة الجبائية والتسخيرية بين اينولتان والمخزن
كان القائد يتولى استخلاص عدد من المطالب المالية وأداء عدد من النفقات التي تؤديها لقبيلة للمخزن وهي غير منتظمة وغير مقدرة ، وكانت التقديرات التي يقوم بها الولاة تعتمد على أداء مقادير معلومة من الزكاة الشرعية في كل سنة بناء على مقادير سجلت في دواوين متقادمة دون مراعاة ظروف المحصول وحجم التساقطات المطرية في السنة الزراعية موضوع التحصيل. وتتشكل المداخيل الجبائية من:
1.    أعشار الحبوب وزكاة الماشية
2.    أعشار الزيت
3.    زكاة المعادن
4.    الجزية على اليهود
5.    الفروض والتوظيفات (الجبايات الاستثنائية)
6.  المكوس ( مستفاد سوق دمنات) هدا المستفاد يتم بما يسمى بالتعاقد الممضي أي (الكونطردة) وهي اشارة قديمة بما يسمى في التدبير الحديث بالتدبير المفوض .
وفي موضع التسخيرات والتي تمثل إجحافا في حق السكان وتعسفا يمارسه العمال لتحقيق أغراض خدمته وخدمة المخزن نجد التسخيرات في الزراعة وفي الرعي وفي البناء وفي نقل الحاجيات أو الرسائل كما نجد تسخير الصناع ومنتوجاتهم وتسخيرات ذات طبيعة متنوعة.
وعن آثار العلاقة الجبائية والتسخيرية على المجتمع الاينولتاني وصف أحمد التوفيق النتائج المدمرة لها على المستوى الإقتصادي كإفقار السكان وهجرة التجار والصناع أسواق دمنات . وعلى المستوى الإجتماعي تهافت الفلاحيين على سكنى المدينة.
وسياسيا أدت هده العلاقة الجائرة في حق النسيج الإجتماعي والاقتصادي لسكان دمنات إلى عصيان القبائل للمخزن ومنها تمرد كطيوة سنة 1283 وغيرها من الانتفاضات المتعددة حتى أن احمد التوفيق أفرد فصلا خاصا وهو الفصل التاسع عشر وعنونه ب:انتفاض اينولتان ركز فيه على مجموعة الأسباب التاريخية التي أدت إلى التمرد والانتفاض خصوصا بعد وفاة السلطان الحسن الأول عام 1311  ه (يونيو1894) ، وقد استفاض الكاتب في ذكر القائمين على الإنتفاضة وطبيعتها التي وصفها بالهيجان وأهدافها ، ليختم الكاتب دراسته القيمة عن مجتمع إنولتان بالفصل العشرين الذي تطرق فيه للمحاولات المتأخرة للإصلاح المخزني ومقاومته للتمرد والتي أفضى إلى إفشال الانتفاضات .
وللإشارة فالفصل المتعلق بالحياة السياسية تمت إضافته عن الفصول الثلاثة الأولى التي هي أصل الأطروحة الجامعية التي قدمها المؤلف في رحاب جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1976  .
على سبيل الختم:
شكلت مساهمة الباحث أحمد التوفيق بلا شك إثراءا للخزانة الوطنية وهي تتلمس طريقها نحو الكتابة التاريخية بمذاق التاريخ الاجتماعي. إلا أن الكاتب استطاع بحس اللحظة الفارقة والتي يعد فيها أطروحته إلى حد ما  أن يتفلت في القراءة من التوجيه الأيديولوجي الماركسي السائد آنئذ مستفيدا من أدبياته المنهجية في اختيار موضوعات بحثه متحريا الدقة في استقراء الوثائق بعيدا عن  أي نمطية أيديولوجية على حد تعبيره في تقديمه للكتاب (طبعة 2011).يقول التوفيق " هذا الخروج المصحوب بالنجاة من فيروس الوقت لم يكن بالأمر الهين" ومعنى ذلك أنه اجتهد للوفاء بالصناعة التاريخية بأوسع الوسائل الممكنة.
ومن الملاحظات التي يمكن استعراضها ونحن نقوم بهذا العمل المتواضع والذي لم يسمح الحيز الزمني للإستغراق أكثر في المقارنة مع ما أنتج من مؤلفات تاريخية في الزمن اللاحق للدراسة ومدى تأثيرها فيما أنتج لا على مستوى التاريخ السياسي للمغرب أو الوقائع الإجتماعية لمغرب القرن التاسع عشر.يمكن أن نؤكد ما يلي:
الملاحظة الأولى:
انطلاقا من الشروط التي تم فيها إنجاز الأطروحة وعلى أساس البحث والدراسة المونغرافية الدقيقة يمكن القول أن أحمد التوفيق تخلص من تبعات الكتابات التقليدية والتي تتخذ الحدث العسكري والسياسي محورا لإنتاجات كرونولوجية، فانطلقت هذه النوعية من الكتابات لتؤسس لمرحلة استيعاب البحث التاريخي للبنى الاجتماعية في مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية.
الملاحظة الثانية :
بالرغم من أهمية الدراسات الأجنبية ودقتها أحيانا فقد آن التخلص من مساوئ هذه الكتابات الكولونيالية والاستعلائية ومن تشويهاتها المغرضة في إطار من الوعي بالذات المغربية وبأبعادها الحضارية والتاريخية، هذا انطلاقا من إعادة قراءة هذه الكتابات وانتقادها بهدف غربلة مضامينها والاستغناء عن المفاهيم الخاطئة التي تروج لها عن تاريخ المغرب، والتي لا تزال وللأسف أصداؤها في كتابات مغربية من باب حسن النية.
الملاحظة الثالثة:
يمكن أن نميز من خلال هذا العمل بعض ملامح المدرسة التاريخية بالمغرب، والتي تتميز بكونها زيادة على أنها تستوعب الواقع التاريخي بتوصيف وثائقي دقيق/ فإنها تتجاوز ذلك إلى المساهمة في بناء فكر تاريخي على مستوى الإستنتاج والتأطير،وذلك هو الإطار الضروري لكتابة تاريخنا الوطني.
 









[i] قمنا بعمل هذه القراءة بمعية الزملاء تفرنت والدومو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا إِله إلا انت سبحانك ربى اني كنت من الظالمين - حسبى الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم - رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا ومحمد عليه افضل الصلاة والسلام نبيا - لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم - يارب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك - اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد عليه افضل الصلاة والسلام - سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر - حسبنا الله ونعم الوكيل - استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم